في الوقت الذي صار فيه حلم عودة الفلسطينيين إلى أرضهم مرة أخرى أبعد من أي وقت مضى جراء النكبة الثانية والتطهير العنصري الذي يعانون من وحشيته منذ السابع من أكتوبر الماضي، يأتي الفيلم الوثائقي «عائدة – Aida Returns» للمخرجة اللبنانية ذات الجذور الفلسطينية كارول منصور الذي صنعته عن أمها، وكأنه نوع من الانتصار وإحياء الأمل في العودة إلى الوطن مرة أخرى حتى ولو رفاتاً، مثل «عايدة» الفلسطينية التي تحمل نصيباً من اسمها.
عادت «عايدة» إلى مسقط رأسها بعدما شهدت نكبة 1948 وخرجت من بلادها وهي في مطلع العشرينات لتعيش حياتها بين لبنان وأوروبا، ثم تجد طريقها مرة أخرى إلى وطنها في صورة رماد مهرب في حقيبة لتدفن في تراب وبحر مدينتها يافا.
رغم مشاكل الفيلم الفنية الكثيرة، فإن ذلك لم يمنع الحضور، سواء كانوا مصريين أو فلسطينيين، الذين شهدوا عرضه في سينما زاوية ضمن برنامج أيام القاهرة السينمائية، من التماهي مع رحلة عودة رماد عايدة إلى يافا والتأثر إلى حد البكاء بصوت عال لحظة الوصول إلى بيت أبيها ودفن جزء من رمادها في ثرى حديقة المنزل ومدفن العائلة.
تقول المخرجة في المناقشة التي أعقبت العرض، إنها حتى اللحظة التي هرَّبت مع صديقتها المخرجة الفلسطينية الأردنية رائدة طه، رماد أمها إلى داخل يافا لم تكن تفكر في صنع فيلم عن أمها، فاللقطات التي قامت بتصويرها لها لعدة سنوات منذ أن بدأت تعاني من الزهايمر كانت مجرد فيديوهات عائلية صوَّرتها لنفسها وللذكرى، لكن في اللحظة التي دخل فيها رماد عايدة إلى الأراضي المحتلة، أدركت، قبل رحلة البحث عن بيت العائلة أنها أمام لحظة تاريخية لا تخصها وعائلتها وحدها وإنما تخص جميع الفلسطينيين واللاجئين.
تأتي المخرجة كارول منصور من خلفية تلفزيونية، إذ بدأت حياتها العملية في مطلع تسعينيات القرن الماضي في أستوديوهات تلفزيون المستقبل اللبناني، حيث تعلمت كل شيء عن صناعة البرامج والأفلام، الأمر الذي أثر إلى حد كبير في أسلوبها في صنع الأفلام الوثائقية، فتتبنى بناء سردياً تقليدياً يتبلور حول المقابلات واللقطات الأرشيفية والصور الفوتوغرافية مصحوبة بالتعليق الصوتي.
لا يعد فيلم «عائدة» العمل الأول الذي تتبع فيه المخرجة حكايات النازحين، وإن كان هو الفيلم الوحيد الذي يُسرد من وجهة نظر شخصية وحميمية، فقد سبقه عدد من الأفلام الوثائقية التي تتبنى قضايا اللاجئين ومعاناتهم وحكاياتهم عن أوطانهم.
أسست منصور في مطلع الألفينيات شركة «Forward Production» التي تقوم بإنتاج أفلام وثائقية تتبنى قضايا إنسانية بشكل عام، وقضايا اللاجئين بشكل خاص. فأخرجت عام 2012 فيلماً عن اللاجئات السوريات توثق معاناتهن بصفتهن نساء في ظل عالم يحكمه ويشعل حروبه الرجال بينما تجني النساء ثمار تلك القرارات والصراعات من فقدان وتشتيت وقرارات صعبة يحملن وطأتها على أكتافهن وحدهن.
وفي 2014 صنعت فيلم «لا سبيل إلى العودة يا صديقي» الذي يوثق المعاناة المضاعفة التي تعرض لها اللاجئون الفلسطينيون في سوريا في إثر قصف مخيم اليرموك عام 2012 مما أدى إلى هرب ساكنيه وساكني مخيمات سورية أخرى إلى لبنان خوفاً من بطش الحرب، إضافة إلى تسليط الضوء على معاناة اللاجئين الفلسطينيين داخل المخيمات اللبنانية.
ثم قامت في عام 2017 بتسجيل قصص وشهادات 12 امرأة فلسطينية من أجيال مختلفة وخلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة في فيلم «خيوط السرد» إذ يروين حكاياتهن عن النزوح واللجوء وهن يقمن بممارسة فن التطريز على الطريقة الفلسطينية كما ورثنه عن عائلاتهن.
صورت مواد الفيلم على ثلاث مراحل: السنوات الأخيرة من حياة عايدة بعدما أصيبت بالزهايمر، ونستطيع أن نلاحظ تدهور حالتها العقلية من خلال تلك اللقطات التي رُصت جوار بعضها كيفما اتفق. ثم هناك مقابلة لها أُجريت في عام 2007 وكانت فيها بكامل صحتها، وكان ضمن مشروع التوثيق وجمع الشهادات الفلسطينية الذي أطلقته شركة المخرجة، وأخيراً رحلتها كرماد إلى فلسطين بصحبة أصدقاء ابنتها الممنوعة من الدخول إلى الأراضي المحتلة بسبب جنسيتها اللبنانية.
ومع ذلك لا يخبرنا الفيلم كثيراً عن بطلته وحياتها وما إذا كانت عودتها رماداً إلى يافا كان عن رغبة منها أم مجرد ارتجالاً من ابنتها مخرجة الفيلم، إذ يبدأ الفيلم بلقطات لها وهي طاعنة في السن ترقد على سرير يبدو في مستشفى وتعاني من ضياع ذاكرتها شبه التام، تخبر ابنتها التي تحمل الكاميرا، بالفرنسية، أن كل ما تعرفه عن نفسها أن اسمها عايدة منصور. أحياناً تخبر ابنتها أنها تحبها، ثم تسألها فجأة من أنت، ثم تعود تردد مراراً «أنت ابنتي وأنا أحبك» وكأنها تذكر نفسها حتى لا تنفلت تلك الحقيقة أو المعلومة من عقلها المشوش.
تتقاطع تلك اللقطات المصورة على فراش المرض مع اللقطات الأخرى الأكثر حداثة المُصورة في عام 2007، وهي تتحدث عن بعض ذكرياتها عن الحياة التي عاشتها في بلدها قبل الاحتلال وكيف كانت حياة متمدنة تضاهي الحياة الأوروبية في ذلك الوقت، والعلاقات القوية والطيبة التي كانت تربط العائلات العربية بعائلات يهودية كانت تعيش قديماً في فلسطين.
تتحدث عايدة في تلك اللقطات أيضاً عن ذكرياتها عن النزوح في 1948، وكيف كانوا يعتقدون أنه وضع مؤقت وسيعودون مرة أخرى إلى بيوتهم، وسنوات هجرتها الأولى، ونفهم من سياق قصة ترويها أنها كانت ترتبط بعمل ما مع الأمم المتحدة. تبدو هذه اللقطات مقتطعة من سياقها دون أن يربطها رابط بما يسبقها أو يليها من مشاهد وكأنها جزر منعزلة، ولا تمنحنا سوى معلومات مبتورة عن البطلة وما عايشته من أحداث مهمة.
كل هذه اللقطات التي تملأ أكثر من النصف الأول من الفيلم تبدو مشتتة مثل عقل البطلة المُصاب بالزهايمر. قصة مليئة بالفجوات التي توسع المسافة بين البطلة والمشاهد فلا يستطيع التماهي معها أو مع حكايتها كليةً. ورغم تصريح المخرجة بأن هذه اللقطات كانت جزءاً من لقاءات مطولة أجرتها مع أمها ونازحين آخرين عن ذكرياتهم عن النكبة، وأيضاً تصريحها بأنها بدأت العمل على المونتاج الذي استغرق ثلاث سنوات بعد عدة سنوات من انتهاء التصوير، مما يعطيها مساحة كبيرة للتفكير في حلول سردية تتمكن من ملء تلك الفجوات، فإن بناء الفيلم المضطرب، خصوصاً في نصفه الأول، يُشعرنا أنه فيلم قد صنع على عجل يفتقر إلى قصة محبوكة.
يبدأ هذا الجزء بلقطات للمخرجة وهي تقسم مادة بيضاء تشبه الدقيق على حقيبتين من البلاستيك ونحن نسمع في الخلفية صوت البطلة لا تزال تتحدث عن الموت وعدم رغبتها في ترك الحياة، ثم ندرك ضمنياً أن هذه المادة ما هي إلا رماد عايدة. ورغم أن المخرجة تقوم بتوزيع الحقيبتين بين صديقتها الفلسطينية وصحفي أمريكي مسافر في مهمة عمل إلى الأراضي المحتلة، حتى إذا أمسكت السلطات بإحدى الحقيبتين تتمكن الأخرى من الوصول إلى وجهتها، إلا أن الفيلم يتبع فقط رحلة حقيبة الصديقة ويتجاهل تماماً ذكر مصير الأخرى التي بحوزة الصحفي.
رحلة عودة رماد عايدة هي الجزء الأكثر تماسكاً وتأثيراً في الفيلم، الذي يخطف أنفاسنا وتركيزنا بينما تجوب صديقة المخرجة شوارع المدينة، حاملة الرماد، بحثاً عن بيت عايدة القديم، مسترشدة بذكريات البطلة التي سردتها عن الطريق للبيت وأهم المعالم التي تحيط به، وبمساعدة سكان المدينة من الفلسطينيين، سواء كانوا شباباً أو شيوخاً، الذين تطوعوا بالوصف أو مصاحبة الصديقة ورفيقتها المصورة في رحلة البحث.
من بين اللحظات المؤثرة، عندما ترسل المخرجة للصديقة خريطة للحي الذي كانت تقطنه البطلة، رسمها أحد أصدقاء الأسرة من الفلسطينيين الذين نزحوا في 1948، قبل أن توافيه المنية بدقائق معدودة لترد الصديقة «فيكم تاخدوا كل شي منا ما عدا الذاكرة». هذه العبارة التي كانت مصدر إلهام للمخرجة لتقوم بعمل موقع إلكتروني يحمل اسم الفيلم تحاول من خلاله جمع مزيد من الشهادات المصورة أو المكتوبة أو صور فوتوغرافية، من هؤلاء الذين عاشوا في فلسطين قبل الاحتلال أو أبنائهم من الجيل الأول، لتوثيق ليس فقط ذكرياتهم عن النكبة ولكن أيضاً عن شكل الحياة في مدنهم وأحيائهم قبلها، ومقتنياتهم التي خرجوا بها من وطنهم أو ورثوها عن عائلتهم.
صمدت تلك الذاكرة أمام أهوال الزمن وتقلباته لما يقرب من 70 عاماً ولم تستطع كل هذه الأعوام محو معالم وتفاصيل الطريق حتى في اللحظات الأخيرة قبل تسليم الروح إلى بارئها. كانت تلك الخريطة إلى جانب ذكريات عايدة هما دليل الوصول إلى البيت القديم رغم تغير معالم المدينة.
أيضاً كان وصول الصديقة إلى بيت عائلة عايدة الذي أصبح الآن ملكاً لإحدى الأسر الإسرائيلية وتسللها إلى داخله لتدفن جزءاً من رماد عايدة تحت أقدم شجرة في حديقته لحظة مشحونة عاطفياً إذ تتوج الرحلة أخيراً بانتصار الوصول وتحقيق ليس فقط أمنية كل فلسطيني انتزع من بيته ووطنه، ولكن كل لاجئ اقتلعته الظروف القاسية من جذوره وألقت به بعيداً عن بلاده، في أن يعود إليها ويُدفن في ترابها.
يجمع فيلم «عائدة» بين عدة متناقضات، ففي الوقت الذي يعاني فيه من مشكلات كبيرة في بنائه السردي ونقص في المعلومات التي تساعد في اكتمال الحكاية وتزيد من توحدنا معها، خصوصاً في ما يتعلق بتهريب الرماد وكيفية دخوله إلى الأراضي المحتلة دون أن تلحظه السلطات، نجده في نصفه الثاني يفيض بشحنة عاطفية تزكيها سحرية الرحلة وانتصار العودة إلى أرض الوطن حتى ولو رماداً.